معاناة الجوع الأزلي – ريا

بلدان:

أجهلُ كلَّ دوافعي، كما أجهلُ كونها غرائز منذ الأزل أم كونها مرتبطةً بإحساس اللحظةِ، غافلةً عمّا سيتبعها. الآنَ أعجز عن صياغةِ تعريف هدوئي، يرعبني هذا الهدوء الذي يحيطه برودٌ تامّ، الإحساس بالعجز والخواء، أن أستشعر في خلايَاي الخِدر وأمتلئ بهِ ليؤكد كوني كتلةً من عدمٍ أو ما يُقارب الجثّة. تصرخ كلُّ الأشياء من حولي، ساخطةً في لحظات، وفي الأُخرى تفرّغ غضبها وهلعها، وبكلِّ ما يحتويه جسدي من خدرٍ اعتدته، أمامها أهدأ. أبدو كالأبله الذي يشاهد جريمةَ قتلٍ عنيفةٍ أمامه بينما تستنجدُ الضحيّة بصرخاتها، أقِف هادئةً تمامًا، فارغةً من كلٍّ إحساسٍ يدفعني للارتباطِ بقضيّةٍ كهذه، قضيةٌ دمي يألفها، وأعرف الضحيّة بكونها أنا، وأعرف قاتلها بكونهِ إحدى صورٍ خلقتها عن نفسي، لأُجسّدها أمام مشهدٍ كلُّ من فيهِ ذواتي. أبدو شاحبةً جداً، تعتريني دوافع بأن أغفلَ عن الأهميّة لألتمس شيئًا من البسيط؛ لأجعل من نفسي أضحوكةً حين أمرُّ من خلالِ عاصفةٍ مأساوية، دونَ أن أتشتت. الآنَ حين أراكَ كإعصارٍ هو وحده من باستطاعتهِ أن يشتتني، عاصفةً مليئةً بأشياء تنقصني، بدوافعِ الاستمرارية، لتصِل لأجزائي، لتتلمّس بخواء يديكَ داخلِي فتمتلئ بكلِّ ما يعنيني، باتصالٍ جسديّ كنتُ أغفلُ كونه يعبر الأرواح إزاء ماديّة الأجساد. فأخافُ وجهك، أخافُ أن يحمل مصرعي، وأنا تعبتُ من تراكم جثثٍ كلها أنا، حين يُخلّف الآخرونَ- حين تُخلّف الحياةُ بقايا متهالكةٍ، من الذي سيتحمَّل بعد كل ذلك الكرب والمعاناةَ والمرارةِ، مشقّة أن يلملم الجثث عن الأرصفةِ، ليعبر المنفى، ليلتقي الموتَ وجهًا لوجه فيفقد لذّته ودهشته، ولا يصلُ إلى ما بعد الموت- غيري؟

من بإمكانهِ أن يبثّ في المادَّةِ والجماداتِ دهشتهُ وشغفهُ، ليغادرها إزاء إحساسه بالخواءِ، أن تصبح وعاءً لبقايَا روحه التي خيّبها سعيها نحو الاكتمال، حين أجِد أنني أفقد قيمتي بدون الإحساس حتى بنواقصه وعيوبه، وحين اتأكد أن الأشياء كلها أيضًا، تفقد قيمتها بدوني. أنا الذي ضلََ يزرعُ باستمرار، وحين جاء يومُ الحصاد، أضاع طريق الوصول، أو ربّما لعلّي توقفت لأستريحَ في منتصفِ الطريق، وفقدتُ لذّة الاستمرار، فبقيتُ حيث مكاني، خفتُ أن أُغادر الآن، أن أصِل لاستيعاب أنَّ كلَّ ما زرعته، التهم روحي، لينمو، فوصلتُ لهُ بفراغٍ سيتآكله بأكمله، ألّا يتبقى شيءٌ ليسدَّ جوع الآخر. آهٍ خوفي بازدياد دائم، بقدر ما ترهبني فكرةُ أن أجوع طيلة الأبديّة، لا أرغبُ أن يستشعر أحدٌ سوايَ هذا الجوع، لأنني عرفتُ كونه لن يكفيني، فاخترتُ أن يسبقني إلى حقلي، من عرفَ معاناةِ الجوع الأزليّ، لكن لم يعرف بعد، معاناةَ أن تنسى الإحساس بالشبع، أن تتذوق مرارةً دومًا، فلن يكفيك شيئًا حتى إن التهمتَ حقلًا زرعته يديك بأكمله.

زر الذهاب إلى الأعلى