ما سأكتبُهُ الآنَ،
لا يُمكن أن تَعُدَّه بأيِّ حالٍ،
قصيدةَ حب.
يَدي في يدِك،
ألتهمُ بعينيّ جسدَك العاري
نائمًا بوداعة..
أذني على قلبك:
لمرةٍ أخيرةٍ سأسمع نبضه.
تتقلبُ
فأعدُّ بابتذالٍ شاماتِ ظهرك
أضحكُ،
فتأخذني بين ذراعيك..
أبكي،
فتقبّل برقةٍ صدريَ النافر،
وتقولُ – محاولًا إضحاكي –
نكاتًا عن الثروة البزّية،
وعن العدالةِ في توزيعها بيننا.
ما الذي بيننا؟
رجل وامرأةٌ وبينهما شيءٌ
لا يَعُدَّانِه شيئًا.
أولَ مرةٍ، التقينا عند مدخل العالم.
مستندًا على سيارتك الحمراء
سألتُك: سفينتك الفضائية؟
وضحكتَ بخجلٍ
وأنت تخلطُ مخدراتك في قلب المقهى.
قدمتُكَ لأصدقائي المندهشين:
“جرّاح.. بيداوي قلوب.”
ثم قال صديقي نكتة ساذجة
عن القلوبِ المعطوبة
عن قلبِه وقلبي وقلبِك..
ثلاثتنا، تخيلناك في السرير.
في المرةِ الثانية
التقينا عند منبع العالم.
وقفتُ في الخلفِ أنظر إلى الموج يلطخُ قدميك
رميتُ أيضًا نكتةً ساذجةً عن الانتحار
وعن وقتِكَ الذي لم ينفد بعد..
لكنكَ قلتَ – أنت المنحازُ إلى الحياةِ دومًا –
“تظنينني مثلكِ؟”
أنا التي أنحازُ كثيرًا إلى الموت.
نظرتُ إلى الماء،
ولمحتُ جسدك طافيًا
ثم نظرتُ إليك
ولم تكن أنت الجالس بجانبي..
في المرةِ الثالثة،
التقينا في منزل جيرد وسام
ذهبا إلى البابِ لحمل كراتين البيرة إلى الداخل
ونظرتُ إلى هرمٍ صنعاه من الزجاجات الفارغة
وإلى فتاتين تقبلان بعضهما في الكنبة المقابلة..
أحاطني سام بذراعه وتأملناك
تعودُ من سمائك شيئًا فشيئًا
تهبطُ من مركبتك وتتجولُ حولنا
تُسقطُ الثلجَ في كأس الويسكي
وتغني جوتّام مع لارا فابيان..
تنسحبُ إلى المطبخ لتبلل وجهك
مُحاذرًا أن تُرى سكرانًا،
أو عاشقًا.
في المرةِ الرابعة التقينا في معهدِ جُوتة.
وقفتَ تحت شجرة تنظرُ إليّ قادمةً من بعيد
ولم أميزك من الليل،
ولا من الظلالِ التي تتداخل فيك
مثل تلك المرةِ أمام الماء
شعرتُ، بإمكان الرياح أن تمر عبرك.
كنتُ قد تركتُ أمي توًا،
وبدأتُ بالتيه.
قلت لك: قبل سنوات تمنيتُ أن أتشرد
أن أضيعَ ولا تَعثرَ أمي عليّ.
وها أنا أذهبُ لأخطرِ الأمكنةِ
حيث لا فائدةَ أن أصرخ: يا أمي.
تحدثنا عن الذهاب بعيدًا
وعن اللغةِ الألمانية اللعينةِ التي تتعلمُها
وأنتَ تؤدي خدمتك العسكرية في الجيش
أنتَ أيضًا تلاحقُ شيئًا،
تهربُ من شيءٍ
لم/ لن تخبرني أبدًا عنه.
لم تقل أبدًا: تعالي
ولم أقل: ابق
مرةً واحدةً سألتني ساخرًا:
أين تتخيلين نفسك بعد عامين؟
قلتُ وأنا أضيفُ السكر إلى الشاي:
“باريس أو لندن”
مثلَ الجميع أرغبُ بالمغادرة.
لكنك نظرتَ إلى الشوارعِ حولنا،
إلى تجمهرِ الناسِ الذين يشاهدون مباراةً للأهلي والترجي
إلى القهوجي وهو يصيح،
والمارةِ وهم يتشاجرون
إلى قططِ الشوارعِ تتسلقُ الأقدام
ثم قلتَ وعيناك تنهمران بالبكاء:
أما أنا فيؤسِفُني أن أُضطرَ للمغادرة.
شربنا في الحرية،
وفي بار التونسي الذي تحبه كثيرًا،
في سيارتك، وفي منزلي،
وموسيقاك الكلاسيكية تتبعنا في كل مكان..
حتى وأنت تُجري عملياتِ ترقيع البكارة
لفتياتٍ سيزوجهنَّ أهلُهُنَّ
فتياتٍ اغتُصِبنَ أو عبثنَ مع آخرين
فتياتٍ من عائلاتٍ محافظة يحملنَ اسمي..
انتظرتُ في الصالة
وأنت ترقِّعُ بكارةَ فتاةٍ على سريري
مُلاءاتي البيضاء تلطخت بالميكروكروم
احتضنتُها طويلًا بعدما انتهتْ من لفِّ الحجاب،
قلتَ لي وهي تنزل الدرج:
عُرسها بعد أسبوعين، يجب أن تنزف في أول ليلة أو ستُقتل حتمًا..
ثم قبلتُك على الفراش ذاته
فكرتُ بسفرك الذي يقترب
بطيفك الذي سيحلُّ مكانك
وقلتُ: اترك لي شيئًا منك.
في آخرِ يوم من العام ألفين وثمانية عشر
احتفلَ أصدقائي في منازلَ عدة
أصدقائي الكُثر، الأمريكان والفرنساوية والطليان الذين تعرفهم،
أرادوني جميعًا في حفلاتهم
لكنّي تجولت تلك الليلة في الشوارع
وتفرغتُ للبكاء.
نظرت إلى السماء التي تحلُّق فيها الآن
فكرتُ بألمانيا الباردة
ألمانيا الغريبةِ، الكئيبةِ، البعيدة
يدي على بطني:
شيءٌ منكَ يحيا الآن في داخلي.
بعد أشهرٍ صادقتَ فتاة تشبهني
لم أبال كثيرًا بالجنس بينكما
بيدك تُمررها على صدرها
بالعناقِ الصلب الذي تحتاجه
حين كان جسدُكَ يُوشِكُ أن ينفصلَ عن جسدي.
لكني تساءلتُ عن الضحكِ والكلام
إن ضحكتَ معها أكثر
أو حكيتَ لها أكثر
إن قربتَها من غرفِ طفولتك المغلقة
إن نادتكَ مثلي باسمٍ مستعار
فلم ترغب أن أناديكَ بذات الاسم
الذي يناديك به والدك.
عرفتُ مصادفةً عن أبيكَ الضابطِ بالجيش
الذي أسقطكَ في هذا الصمت..
ومراتٍ قليلة حكيتَ لي عن شواطئك المفضلة
وشوارعِ القاهرةِ التي تحب
وابتعدت كثيرًا عنها..
منذ أيام التقيتك أخيرًا
وذراعُكَ على وشكِ أن تنفلت.
حكيت لي عن مرضاك في مشفاك الألماني
عن اللاجئ السوري الذي وصل من حلب مشيًا على قدميه
عن قلبه المتعب وإقناعك له بأن يتعلم القراءة ليدون قصته
وعن المتبرع اليهودي الذي منحه قلبه
عن افتقادك للبحر وغابات ألمانيا المخيفة و كنيسة نوتردام
التي صورتها قبل احتراقها بأسبوعين
عن رحلتك لجبال الألب
واشتياقك حينها لأكل الفول من على عربةٍ في طلعت حرب
عن القاهرةِ التي تعذبك وتفكرُ فيها كل حين
عن بكائك في حاناتِ أوروبا وأنت تقول للندماء الذين لا يتحدثون العربية:
“أنا مصر وحشتني.”
منذ يومين التقيتك،
وفي قلب مزاحنا أخبرتُك بأني أحبك
وأني قبل عامين
أجهضتُ طفلًا لك..
بمحارمَ بيضاء مسحتُ دمَه عن البلاطِ،
وعن فرجي،
بالرقةِ التي مسحتَ بها ماءك عنه
بالرقةِ ذاتها،
قتلتُ طفلًا بحاجبين كثيفين..
وكتبتُ قصيدةً طويلةً
عن طفلٍ يُشبهك
طفلٍ ميتٍ
يخرجُ كلَّ ليلةٍ من بُقعةِ دم
ويتجولُ في الرواق.
قلتُ أحبكَ
وبَدَتْ كلمةً بسيطةً للغاية
أبسطَ من يَدِكَ وهي تمرُّ بحنانٍ فوق رأسي
أبسطَ من نظراتك الشاردة
من تيهك المتعمَّدِ في البُلدان
من الغرباءِ الذين تذهبُ معهم
ثم يلقونكَ في روسيا
بين أناسٍ يشربون الويسكي من الزجاجة.
قلتُ أحبك
ولم أعرفْ إن صرنا الآن حبيبين أو صديقين
أو شيئًا بين هذا وذاك
أو شخصين وحيدين للغاية
وبينهما طفل ميت.
قلتُ أحبكَ،
وبدت أقلَّ أهميةً
من الليلِ الذي يخيمُ على حياتك وحياتي
من روحك الشريدة التي لا تبقى في مكانها
من خوفك الذي يشبه خوفي
من أن تظلَّ في المكان ذاته
من حزنك الذي يشبه حزني
من الصمتِ بيننا
والليلِ بيننا
والأرضِ التي علقنا فيها
بين الموتِ والحياة،
بين النزعة إلى الاستقرار
والرغبة في التشرد
قلتُ أحبك،
ليسَ لأني أبحثُ عن الشِّعر
أو عن الأملِ في آخر نبيذٍ في الزجاجة
وبدتْ مثلَ كلمةٍ بلا وزن
تقولُها كثيرًا
عشيقاتي
وعشيقاتُك
لكنكَ قلت:
حينَ أتوهُ في ألمانيا،
أتذكرُ وجهَكِ،
فأتمكنُ أخيرًا من العودةِ إلى المنزل.
ـــــــــــــــــــــ
*آلاء حسانين، من مجموعة: الحب الذي يضاعف الوحدة، عن دار وزيز