حسنًا، أظنّ الوطنَ قد بصقني، تعتيم المدن وحظر التجوال يشبهان أنّ لسانًا يعبث بسنّ على وشك السقوط. ربّاه، هل تعرف كم هو مضنٍ أن تتحدّث عن اليوم الذي جرّتك فيه مدينتك من الشعر، عابرةً على السجن القديم، مرورًا ببوّابات المدرسة، مرورًا بالجذوع البشريّة المحترقة منصوبةً على السواري كالأعلام؟ حين أقابل آخرين مثلي، أعرفهم من الاشتياق، من لوعة الفقد، من ذاكرة الرماد على وجوههم. لا أحد يترك الوطن ما لم يكن الوطن فمَ قرش. لقد بتُّ أحمل النشيد الوطنيّ في فمي زمنًا طويلًا حتى لم يعد ثمّة متّسع لأغنيةٍ أخرى، ولا للسانٍ آخر أو لغةٍ جديدة. أعرف عارًا يجلّل المرء ويبتلعه بالكامل. لقد مزّقت جواز سفري وأكلته في فندق مطارٍ ما. أنا مثقلة بلغة لا أطيق نسيانها.
يسألونني كيف جئتِ إلى هنا؟ ألا ترونه على جسدي؟ الصحراء الليبية متوهّجةٌ من أجساد المهاجرين، خليج عدن منتفخ الأوداج، مدينة روما بلا سترة نجاة. آمل أنّ الرحلةَ قد عنتْ ما هو أكثرَ من الأميال لأنّ جميع أطفالي تتقاذفهم الأمواج. لقد ظننتُ البحر أكثر أمانًا من اليابسة. أودّ لو أمارس الحبّ لكن شعري تفوح منه رائحةُ حربٍ وفرارٍ تلوَ فرار. أودّ لو أضطجع لكن هذه البلدان مثل أخوال يخاتلونك في يفاعة المنام. انظر إلى كلّ هذه الحدود، تُزبد أفواهها بأجسادٍ محطّمة ويائسة. أنا لون الشمس الحارّة. رفات أمّي لم يُدفن قطّ. قضيت لياليَ وأيّامًا في بطن شاحنة؛ وخرجتُ منها غيرَ التي كنت. أشعر أحيانًا أنّ أحدًا آخر يرتدي جسدي.
لكنّي على يقين من بضعة أشياء. لا أعرف إلى أين أنا راحلة، المكان الذي جئت منه يتلاشى، أنا غير مرغوبة وجمالي ليس جميلًا هنا. جسدي يتلظّى بعار عدم الانتماء، جسدي يحنّ، أنا خطيئة الذاكرة وغياب الذاكرة. أشاهد الأخبار فيصير فمي حوضَ دم. الخطوط، الأشكال، الناس في المكاتب، بطاقات الاتصال، موظّف الهجرة، النظرات في الشارع، البرد مستوطنًا عمقَ عظامي، دروس الإنجليزية في الليل، المسافة الفاصلة عن البيت. لكن الحمد لله كلّ هذا أفضل من رائحة امرأةٍ تحترق بالكامل، أو شاحنةٍ ملأى برجالٍ يشبهون أبي، يخلعون أسناني ويقتلعون أظافري، أو أربعة عشر رجلًا بين ساقيّ، أو من مسدس، أو من وعد، أو من كذبة، أو من اسمه، أو من فحولته في فمي.
أسمعهم يقولون عودي إلى بلدك، أسمعهم يقولون تبّا للمهاجرين، وسحقًا للاجئين. هل هم حقّا على هذه الدرجة من الغطرسة؟ هل يدرون أنّ الاستقرار مثل عاشق معسول اللسان ينداح على جسمك للحظة، ثم يتركك أطلالًا ترتعش على الأرض في انتظار عودته. كلّ ما أستطيع قوله أنّني كنت يومًا مثلكم، نفس البلادة، والشفقة، والموقف البغيض والآن وطني فم قرش، الآن وطني فوّهة بندقية. سأراكم على الجانب الآخر.
*ورسان شاير
*ترجمة: سلمان الجربوع