-1-
حتى الآن، تُرسم الأرض إجَّاصةً
أعني ثدياً
لكن، ليس بين الثدي والشاهدة إلا حِيلةٌ هندسية:
نيويورك،
حضارةٌ بأربعِ أرجل؛ كلّ جهةٍ قتلٌ وطريق إلى القتل،
وفي المسافاتِ أنين الغرقى.
نيويورك،
امرأةٌ- تمثال امرأةٍ
في يدٍ ترفع خِرقةً يسميها الحريةَ ورقٌ نسمّيه التاريخ
وفي يدٍ تخنق طفلةً اسمها الأرض
نيويورك،
جسدٌ بلونِ الإِسفلت. حول خاصرتها زنّارٌ رطب، وجهها
شبّاك مغلق…قلت: يفتحه و ولت ويتمان –” أقول كلمة
السر الأصلية”- لكن لم يسمعها غير إله لم يعد في مكانه.
السجناء، العبيد، البائسون، اللصوص، المرضى يتدفقون
من حنجرته، ولا فتحة، لا طريق. وقلت جسر بروكلين!
لكنه الجسر الذي يصل بين ويتمان ووول ستريت، بين
الورقة- العشب والورقة- الدولار…
نيويورك –هارلم،
من الآتي في مقصلةِ حريرٍ، من الذاهب في قبرٍ بطولِ
الهدسون؟ انفجرْ يا طقس الدمع، تلاحمي يا أشياء التعب.
زرقةٌ، صفرةٌ، وردٌ، ياسمينٌ و الضوء يسنّ دبابيسه، وفي
الوخز تولدُ الشمس. هل اشتعلتَ أيها الجرح المختبئ بين
الفخذ والفخذ؟ هل جاءك طائر الموت وسمعت آخر
الحشرجه؟ حبلٌ، والعنق يجدل الكآبة وفي الدوم سويداء
الساعة…
نيويورك- ماديسون- بارك افينيو- هارلم،
كسلٌ يشبهُ العملِ، عملٌ يشبه الكسلِ. القلوب محشوةٌ
إسفنْجاً والأيدي منفوخةٌ قصباً. ومن أكداسِ القذارة وأقنعة
الامبايرستيت، يعلو التاريخ روائح تتدلّى صفائح صفائح:
ليس البصر أعمى بل الرأس،
ليس الكلام أجردَ بل اللسان.
نيويورك –وول ستريت- الشارع 125- الشارع الخامس
شبحٌ ميدوزيٌّ يرتفع بين الكتف والكتف. سوق العبيد من
كل جنس. بشرٌ يحيون كالنبات في الحدائق الزجاجية.
بائسون غير منظورين يتغلغلون كالغبار في نسيجِ الفضاء-
ضحايا لولبية،
الشمسُ مأتمٌ
والنهارُ طبلٌ أسود.
-2-
هنا،
في الجهةِ الطحلبيّة من صخرة العالم، لا يراني إلا زنجيّ
يكاد أن يُقتل أو عصفورٌ يكاد أن يموت، فكّرت:
نبتةٌ تسكن في أصيصٍ أحمر كانت تتحول وأنا أبتعدُ عن
العبتة، وقرأتُ:
عن فئرانٍ في بيروت وغيرها ترفل في حرير بيت أبيض، تتسلح
بالورقِ وتفرض البشر،
عن بقايا خنازير في بستان الأبجدية تدوس الشعر،
ورأيت:
أينما كنت-
بتسبورغ( أنتيرناشينال بوتيري فورم)
جون هوبكنز(واشنطن)، هارفارد
(كامبردج، بوسطن)، آن آربر( ميشيغن،
ديترويت)، نادي الصحافة الأجنبية،
النادي العربي في مقز الأمم المتحدة
(نيويورك)، برنستون، تمبل
(فيلادلفيا)،
رأيتُ
الخريطةَ العربية فرساً تجرجر خطواتها والزمن يتهدّل كالخْرج
نحو القبر أو نحو الظل الأكثر عتمة، نحو النار المنطفئة أو ن
نحو نار تنطفئ؛ تكتشف كيماء البعد الآخر في كركوك
الظهران وما تبقى من هذه القلاع في أفراسيا العربية. وهاهو
العالم ينضج بين يدينا.هَهْ! نهّيئ الحرب الثالثة، ونقيم
المكاتب الأولى والثانية والثالثة والرابعة لنـتأكد:
1- في تلك الناحية حفلة جاز،
2- في هذا البيت شخصٌ لا يملك غير الحبر،
3- في هذه الشجرة عصفور يغني.
ولنعلن:
1- الفضاء يقاس بالقفص أو بالجدار،
2- الزمن يُقاس بالحبل أو بالسوط،
3- النظام يبني العالم وهو الذي يبدأ بقتل الأخ،
4- القمر والشمس درهمان تحت كرسي السلطان،
و رأيتُ
أسماء عربية في سعة الأرض أكثر حنوّاً من العين، تُضيء
لكن كما يضيء كوكبٌ مشرد” لا أسلاف له وفي خطواته
جذوره…”
هنا،
في الجهة الطحلبية من صخرة العالم أعرف، أعترف. أّكر
نبتةً أسميها الحياة أو بلاديَ، الموتَ أو بلاديَ- ريحاً تجمد
كالملاءة وجهاً يقتل اللعب، عينا تطرد الضوء، وأبتكر
ضدّك يا بلادي،
أهبط في جحيمكِ وأصرخ:
أقطّر لكِ إكسيراً سامّاً وأحييكِ،
وأعترف: نيويورك، لكِ في بلادي الرّواق والسرير، الكرسي
والرأس. وكل شيء للبيع: النهار و الليل، حجر مكّة وماء
دجلة. وأعلن: مع ذلك تلهثين- تسابقين في فلسطين، وفي
هانوي، في الشمال والجنوب، الشرق والغرب، أشخاصاً لا
تاريخ لهم غير النار،
أقول: منذ يوحنا المعمدان، يحمل كلٌّ منا رأسه المقطوعَ
في صحنٍ وينتظر الولادة الثانية.
-3-
تفتّتي يا تماثيلَ الحرية، أيتها المسامير المغروسة في الصدور
بحكمةٍ تقلّد حكمة الورد. الريح تهبّ ثانية من الشرق،
تقتلع الخيام وناطحات السحاب، وثمة جناحان يكتبان:
أبجديةٌ ثانية تطلعُ في تضاريس
الغرب،
والشمس ابنةُ شجرةٍ في بستان القدس.
هكذا أضرم لهبي. أبدأ من جديدٍ، أشكّل وأحدّد:
نيويورك،
امرأةٌ من القشّ والسرير يتأرحجُ بين الفراغ والفراغ، وهاهو
السقف يهترئ: كل كلمةٍ إشارةُ سقوطٍ، كل حركةٍ رفشٌ أو
فأس. وفي اليمين واليسار أجسادٌ تحب أن تغير الحبَّ النظرَ
السمع الشمّ اللمس والتغّير- تفتح الزمن كبّوابةٍ تكسرها
وترتجلُ الساعات الباقية.
الجنسَ الشعرَ الأخلاقَ العطشَ القولَ الصّمت وتنفي
الأقفال. قلت: أغري بيروت،
-” إبحث عن الفعل. ماتت الكلمة”، يقول آخرون.
الكلمة ماتت لأن ألسنتكم تركت عادة الكلام إلى عادة
الموْمأة.
الكلمة؟ تريدون أن تكشفوا نارها؟ إذن، اكتبوا. أقول
اكتبوا، ولا أٌول مَوْمِئوا، ولا أٌول انسخوا. اكتبوا – من
المحيط إلى الخليج لا أٍمع لساناً، ولا أقرأ كلمة. أٍمع
تصويتاً. لذلك لا ألمح من يلقي ناراً.
الكلمة أخفّ شيءٍ وتحمل كل شيء. الفعل جهةٌ ولحظةٌ،
والكلمة الجهات كلها الوقتُ كله. الكلمة – اليد، اليد-
الحلم
أكتشفكِ أيتها النار يا عاصمتي،
أكتشفكِ أيها الشعر،
وأغري بيروت. تلبسني وألبسها. نشرد كالشعاع ونسأل: من
يقرأ، من يرى؟ الفانتوم لدايان والنفط يجري إلى مستقّره.
صدق الله، ولم يخطئ ماو:” السلاحُ عامِلٌ مهمٌ جداً في
الحرب، لكنه غير حاسم. الإنسانُ، لا السلاح، هو العامل
الحاسم”، وليس هناك نصرٌ نهائيّ ولا هزيمة نهائية.
ردّدتُ هذه الأمثال والحكم، كما يفعل العربي، في وول
ستريت، حيث تصبّ أنهارُ الذهب من كل لونٍ آتيةً من
الينابيع. ورأيت بينها الأنهار العربية تحمل ملايين الأشلاء
ضحايا وتقْماتٍ إلى الوثن السيد. وبين الضحية والضحية
يقهقه البحارة فيما يتدحرجون من كريزلر بيلدنغ، ليعودوا إلى
الينابيع.
هكذا أضرم لهبي،
نسكن في الصخب الأسود لتمتلئ رئاتنا بهواء التاريخ،
نطلع في العيون السوداء المسّيجة كالمقابر لنغلب الكسوف،
نسافر في الرأس الأسود لنواكب الشمس الآتية.
-4-
نيويورك، أيتها المرأة الجالسة في قوس الريح،
شكلاً أبعدَ من الذرَّة،
نقطةً تهرول في فضاء الأرقام،
فخذاً في السماء وفخذاً في الماء،
قولي أين نجمُكِ ؟ المعركة آتيةٌ بين العش والأدمغة
الألكترونية. العمر كله معلّق على جدارٍ، وها هو النزيف في
الأعلى رأسٌ يجمع بين القطب والقطب، في الوسط آسيا
وفي الأسفل قدمان لجسد غير منظور. أعرفك أيتها الجثّة
السابحة في مِنسك الخشخاش، أعرفكِ يا لعبة الثدي
والثّدي. أنظر إليكِ وأحلم بالثلج، أنظر إليكِ وأنتظر
الخريف.
ثلجكِ يحمل الليل، ليلك يحمل الناس خفافيش تموت. كلّ
جدارٍ فيك مقبرة. كل نهارٍ حفارٌ أسود
يحمل رغيفاً أسود صَحْناً أسود
ويخطط بهما تاريخ البيت الأبيض:
أ-
ثمة كلابٌ تترابط كالقيد. ثمة قططٌ تلد خوذاً وسلاسل. وفي
الأزّقة المتسللةِ على ظهور الجذران، يتناسل الحرس الأبيض كالفطر.
ب-
امرأةٌ تتقدم وراء كلبها المسرج كالحصان. للكلب خطوات
الملك، وحوله تزحف المدينة جيشاً من الدمع. وحيث
يتكدس الأطفال والشيوخ الذين يغطيهم الجلد الأسود، تنمو
براءة الرصاص كالزرع، يضرب الهلعُ صدر المدينة.
ج-
هارلم- بدفورد ستويفنت: رملٌ من البشر يتكاثف بروجاً
بروجاً. وجوه تنسج الأزمنة. النفايات ولائم الأطفال،
الأطفال ولائم للجرذان… في العيد الدائم لثالوثٍ آخر:
الجابي، الشرطي، القاضي- سلطة الفتك، سيف الإبادة.
د-
هارلم( الأٍسود يكره اليهودي)
هارلم( الأسود لا يحب العربي حين يذكر تجارة الرقيق)،
هارلم – برودواي( البشر يدخلون رخوياتٍ في أنابيق
الكحول والمخدرات).
برودواي –هارلم، مهرجان سلاسل وعصيّ، والشرطة
جرثومة الزمن. طلقةٌ واحدة، عشر حمامات. العيون
صناديق تتمّوج بثلج أحمر، والزمن عكاز يعرج. إلى التعب
أيها الزنجيّ الشيخ، الزنجي الطفل. إلى التعب أيضًا
وأيضًا.
هارلم،
لستُ آتياً من الخارج: أعرف حقدك، أعرف خبزه الطّيب
ليس للمجاعة غير الرعد المفاجئ، ليس للسجون غير
صاعقة العنف. ألمح نارك تتقدم تحت الإسفلت في خراطيمَ
وأقنعة، في أكداسٍ من النفايات يحضنها عرش الهواء
البارد، في خطوات منبوذةٍ تَنْتَعِل تاريخ الريح.
هارلم،
الزمن يُـحتضَر وأنتَ الساعة:
أسمع دموعاً تهدر كالبراكين،
ألمح أشداقاً تأكل البشر كما يأكل الخبز
أنتَ الممحاة لتمحو وجه نيويورك،
أنت العاصفُ لتأخذها كالورقة وترميها.
نيويورك= I.B.M+ subway آتياً من الوحل والجريمة
ذاهباً إلى الوحل والجريمة.
نيويورك= ثقباً في الغلاف الأراضي ينبجس منه الجنون
أنهاراً أنهاراً.
هارلم، نيويورك تُحتضر وأنت الساعة.
-5-
بين هارلم ولنكولن سنـتر،
أتقدم رقماً تائهاً في صحراء تغطيها أسنان فجرٍ أسود. لم يكن
ثلج، لم تكن ريح. كنت كمن يتبع شبحاً ( ليس الوجه وجهاً
بل جرح أو دمع، ليست القامة قامة بل وردة يابسة)،
شبحاً- ( هل هو امرأة؟ رحلٌ؟ هل هو امرأة – رجل؟) يحمل
في صدره أقواساً ويكمن للفضاء. مرّت غزالة ناداها
الأرض. ظهر عصفور ناداه القمر. وعرفت أنه يركض ليشهد
بعث الهندي الأحمر… في فلسطين و أخواتها،
والفضاء شريط رصاص،
والأرض شاشة قتلى.
وشعرت أنني ذرةٌ تتموج في كتلةٍ تتموج نحو الأفق الأفق
الأفق. وهبطت أوديةً تتطاول وتتوازى، وخطر لي أن أِك
في استدارة الأرض…
وفي البيت كانت يارا،
يارا طرف أرضٍ ونينارُ طرفٌ آخر.
وضعتُ نيويورك بين قوسين وسرت في مدينة موازية. قدماي
تمتلئان بالشوارع، والسماء بحيرةٌ تسبح فيها أسماك العين
والظنِّ وحيوانات الغيم. وكان الهدسون يرفرف غراباً يلبسُ
جسد البلبل.وتقدّم نحوي الفجر طفلاً يتأوه ويشير إلى
جراحه. وناديت الليل فلم يجب. حمل سريره واستسلم
للرصيف. ثم رأيته يتغطى بريحٍ لم أجد أرقّ منها غير
الجدران والأعمدة… صرخة، صرختان، ثلاث…
وأجفلت نيويورك كضفدعٍ نصف جامد يقفز في حوض بلا
ماء
لنكولن،
تلك هي نيويورك: تتكئ على عكاز الشيخوخة وتتنزه في
حدائق الذاكرة، والأشياء كلها تميل إلى الزهر المصنوع.
وفيما أنظر إليكَ. بين المرمر في واشنطن، و أرَى من يشبهك
في هارلم، أفكر: متى حين ثورتك الآتية؟ ويعلو صوتي:
حرِّروا لنكولن من بياض المرمر، من نيكسون، وكلاب
الحراسة والصيد. اتركوا له أن يقرأ بعينٍ جديدة صاحب
الزنج علي ابن محمد، وأن يقرأ الأفق الذي قرأه ماركس
ولينين وماوتسي تونغ.
والنِّفَّري، ذلك المجنون السماويّ الذي أَنْحلَ الأرض
وسمح لها أن تسكن بين الكلمة والإشارة. وأن يقرأ ما كان
يوّد أن يقرأه هوشي منه، عروةَ ابن الورد: ” أقسّم جسمي في
جسومٍ كثيرةٍ…”، ولم يعرف عروة بغداد، وربما رفض أن
يزور دمشق. بقي حيث الصحراء كتفٌ ثانية تشاركه حمل
الموت. وترك لمن يحب المستقبل جزاءاً من الشمس منقوعاً
في دم غزالةٍ كان يناديها: حبـيـبـتي! واتفـق
مع الأفق ليكون بيته الأخير.
لنكولن،
تلك هي نيويورك: مرآة لا تعكس إلا واشنطن. وهـذه
واشنطن: مرآةٌ تعكس وجهين- نيكوس وبكاءَ العالم.
ادخلْ في رقصة البكاء، انهضْ لا يزال ثمة مكان، لا يزال
دور… أعشق رقصة البكاء الذي يتحول إلى حمامةٍ تتحول
إلى طوفان. ” الأرض للطوفان محتاجةٌ…”
قلت البكاء وعنيت الغضب. عنيت كذلك الأسئلة: كيف
أُقنع المعرّةَ بأبي العلاء؟ سهولَ الفرات بالفرات؟ كيف أبدلُ
الخوذة بالسنبلة؟( لا بدّ من الجرأة لطرح أسئلة أخرى على
النبي والمصحف)، أقول وألمح غيمةً تتقلد النار؛ أقول
وألمح بشراً يسيلون كالدمع
-6-
نيويورك،
أحصركِ بين الكلمة والكلمة، أقبضُ عليكِ، أدحرجكِ
أكتبكِ و أمحوكِ. حارّة باردة، بين بين. مستيقظة، نائمة،
بين بين. أجلس فوقكِ وأنتهد. أتقدّمك وأعلِّمك السير
ورائي. سحقتكِ بعينيَّ، أنتِ المسحوقة بالرعب. حاولت
أن آمر شوراعكِ: أستلقي بين فخذيَّ لأمنحكِ مدى آخره؛
و أشياءكِ: أغتسلي لأعطيكِ أسماء جديدة.
كنت لا أجد فرقاً بين جسدٍ برأٍ يحمل أغصاناً نسميه
شجرة، وجسد برأسٍ يحمل خيوطاً رفيعة نسميه إنساناً.
واختطلت عليَّ الحجرة والسيارة، وبدا الحذاء في
الواجهات خوذةَ شرطي والرغيفُ صحيفة توتياء.
مع ذلك، ليست نيويورك لغواً بل كلمة. لكن حين أكتب:
دمشق، لا أكتب بل أقلّد لغواً. دال ميم شين قاف…
لا تزال صوتاً، أعني شيئاً من الريح. خرجت مرةً من الحبر
ولم تعدْ. الزمن واقف حارساً على العتبة يسأل: متى تعود،
متى تدخل؟ كذلك بيروت القاهرة بغداد لغوٌ شاملٌ كهباء
الشمس…
شمس، شمسان، ثلاث، مئة…
(استيقظ فلانَّ وفي عينه اطمئنانٌ يمتزج بالقلق. يترك
زوجاته وأبناءه ويخرج حاملاً بندقيته.شمس، شمسان،
ثلاث، مئة…هاهو كالخيط مهزوماً ينزوي تحت نفسه.
يجلس في المقهى. المقهى يمتلئ بحجارةٍ ودُمىً نسميها
رجالاً، بضفادعَ تتقيأ الكلام وتوسخ المقاعد. كيف يستطيع
فلانٌ أن يثور وعقله مليءٌ بدمه، ودمه مليءٌ بالسلاسل؟)
اسألك، أنت من تقول لي:
أجهل العلم وأتخصّص بكيمياء العرب.
-7-
السيدة برونيج، يونانية في نيويورك. بيتها صفحة من كتاب
المتوسط- الشرق. ميرين، نعمة الله، ايف بونّفوا… وأنـا
كمن يضيع ويقول أشياء لا تقال. كانت القاهرة تتناثر بيننا
ورداً يجهل الأزمنة، وكانت الإسكندرية تختلط بصوت
كفافي وسيفيريس.” هذه أيقونة بيزنطية…”، قالت
والزمن يلتصق على شفتيها عطراً أحمر. كان الوقت يحدودب
والثلج يتكئ، (منتصف ليلة 6 نيسان 1971).
ونهضت في الصباح صارخاً
قبيل ساعة العودة: نيويورك !
تمزجين الأطفال بالثلج وتصنعين كعكة العصر. صوتك إكسيدٌ
سمٌّ مما بعد الكيمياء، واسمكِ الأرقُ والاختناق. سنـترال بارك
تولم لضحاياها، وتحت الشجر أشباح جثث وخناجر. ليس للريح
غير الأغصان العارية، ليس للمسافر إلا طريق مسدود.
ونهضت في الصباح صارخاً: نيكسون، كم طفلاً قتلت اليوم؟
– ” لا أهمية لهذه المسألة!” (كالي)
– “صحيح أن هذه مشكلة. لكن ليس صحيحاً كذلك أن هذا
ينقص عدد العدو ؟”(جنرال أميركي).
كيف أعطي لقلب نيويورك حجماً آخر؟ هل القلب كذلك
يوسّع حدوده؟
نيويورك- جنرال موتورز الموت،
” سّنبدل الرجال بالنار!” (مكنمارا )- يجفّفون البحر الذي يسبح
فيه الثوار، و “حيث يجعلون من الأرض صحراء، يسمون ذلك
سلاماً!” ( تاسيت)”.
ونهضت قبل الصباح، وأيقظت ويتمان.
-8-
و ولت ويتمان،
ألمح رسائل إليك تتطاير في شوراع منهاتن. كل رسالةٍ عربةٌ ملأى
بالقطط والكلاب. للقطط والكلاب القرن الواحد والعشرون،
وللبشر الإبادة:
هذا هو العصر الأميركي!
ويتمان،
لم أرك في منهاتن ورأيتُ كل شيء. القمر قشرةٌ تُقذف من
النوافذ والشمس برتقالة كهربائية. وحين قفز من هارلم طريق
أسود في استدارة قمرٍ يتوكأ على أهدابه، كان وراء الطريق شيء
يتبعثر على مدى الإسفلت، ويغور كالزرع بعد أن يصل إلى
غرينتش فيليج، ذلك الحي اللاتيني الآخر، أعني الكلمة التي
تصل إليها بعد أن تأخذ كلمة حُبّ وتضع نقطة تحت الحاء. ( أذكر
أنني كتبت ذلك في معظم فايسروي بلندت، ولم يكن معي غير
الحبر. وكان الليل ينمو كزغب العصافير)
ويتمان،
” الساعة تعلن الوقت” ( نيويورك – المرأة قمامة، والقمامة زمنٌ
يتجه إلى الرماد).
” الساعة تعلن الوقت” ( نيويورك – النظام بافلوف، والناس كلاب
التجارب… حيث الحرب الحرب الحرب!).” الساعة تعلن
الوقت” ( الرسالة آتية من الشرق. طفل كتبها بشريانه. اقرأها:
الدمية لم تعد حمامة. الدمية مدفع، رشاش، بندقية… جثثٌ في
طرقات من الضوء تصل بين هانوي والقدس، بين القدس
والنيل).
ويتمان،
” الساعة تعلن الوقت” أنا
” أرى ما لم تره و أعرف ما لم تعرفه”،
أتحرك في مساحة شاسعة من علبٍ تتجاوز
كسراطين صفراء في محيطٍ من ملايين
الجزر – الأشخاص؛ كل واحدة عمود
بيدين وقدمين ورأس مكسور. وأنتَ
” أيها المجرم، المنفيّ، المهاجر”
لم تعد إلا قبّعة تلبسها عصافير لا تعرفها سما أميركا!
ويتمان، ليكن دورنُا الأن. أصنع من نظراتي سّلماً. أنسج خطواتي
وسادةً، وسوف ننتظر. الإنسان يموت، لكنه أبقى من القبر.
ليكن دورنا، الآن. أنتظر أن يجري الفولغا بين منهاتن وكوينز؛
أنتظر أن يصبَّ هوانغ هو حيث يصب الهدسون. تستغرب؟ ألم
يكن العاصي يصبّ في التيبر؟ ليكن دورنا الآن. أسمع رجّةً
وقصفاً. وول ستريت وهارلم يلتقيا- يلتقي الورق والوعد
الغبار والعصف. ليكن دورنا، الآن. المحار يبني أعشاشه في
موج التاريخ. الشجرة تعرف اسمها. وثمة ثقوب في جلد
العالم، شمسٌ تغيّر القناعة والنهاية وتنتحب في عينٍ سوداء.
ليكن دورنا، الآن نقدر أن ندور أسرع من الدولاب، أن نحطِّم
الذرة ونسبح في دماغ إلكتروني باهت أو متلألئ، فارغ أو مليء،
وأن نتخذ من العصفور وطناً. ليكن دورنا، الآن. ثمة كتاب أحمر
صغير يصعد. لا خشبة الجنون الحكيم، والمطر الذي يصحو لكي
يرث الشمس. ليكن دورنا، الآن. نيويورك صخرة تتدحرج
فوق جبين العالم. صوتها في ثيابكَ وثيابي، فحمها يصبغ
أطرافك وأطرافي.. أستطيع أن أرى النهاية، ولكن كيف أقنع
الزمن لكي يبقيني حتى أرى؟ ليكن دورنا، الآن. وليسبح الزمن
في ماء هذه المعادلة:
نيويورك+ نيويورك= القبر أو شيء يجيء من القبر،
نيويورك+ نيويورك= الشمس.
-9-
في الثمانين أبدأ الثامنة عشرة. قلت هذا القول وأكرّر ولم تسمع
بيروت.
جثةٌ هذه التي توحِّد بين البشرة والثوب
جثة هذه المستلقية كتاباً لا حبراً
جثة هذه التي لا تسكن في صرف الجسد ونحوِه
جثة هذه التي تقرأ الأرض حجراً لا نهراً
( نعم أحبّ الأمثال والحكمة، أحياناً
إن لم تكن مُهيِّماً، تكن جثة!)
أقول وأكرر،
شعري شجرة وليس بين الغصن والغصن، الورقة والورقة إلاّ
أمومةُ الجذع
أقول أكرر
شعري وردة الرياح. لا الريح. بل المهبّ، ولا الدورة بل المدار
هكذا أبطل القاعدة، وأقيم لكل لحظة قاعدة. هكذا أقترب ولا
أخرج. أخرج ولا أعود. و أتجه نحو أيلول والموج0
هكذا، أحمل كوباً على كتفيَّ وأسأل في نيويورك: متى يصل
كاسترو؟ وبين القاهرة ودمشق أنتظر على الطريق المؤدي…
… التقى غيفارا بالحرية. تغلغل معها
في فراش الزمن وناما. وحين
استيقظ لم يجدها. ترك النوم
و دخل في الحلم،
في بيركلي، في بيروت وبقية الخلايا، حيث يتهيأ كل شيء ليصير كلَّ
شيء.
بين وجهٍ يميل إلى المار يجوانا تحمله شاشة الليل،
و وجه يميل إلى الآي بي إم تحمله شمس باردة،
أجريت لبنان نهراً من الغضبِ، وطلع جبران في ضفة وطلع
أدونيس في الضفة الثانية.
وخرجت نيويورك، كما أخرج من سرير:
المرأة نجمة مطفأة والسرير ينكسر أشجاراً بلا فضاء، هواءً يعرج،
صليباً لا يتذكر الشوك
والآن،
في عربة الماء الأول، عربة الصور التي تخرج أرسطو وديكارت
أتوزع بين الأشرفية ومكتبة رأس بيروت، بين زهرة الإحسان
وطبعة حايك وكمال، حيث تتحول الكتابة نخلة والنخلة إلى يمامة.
حيث تـتـناسل ألف ليلة وليلة وتختفي بثينة وليلى
حيث يسافر جميل بين الحجر والجحر، وما من يحظى بقيس.
لكن،
سلامٌ لوردةِ الظلام والرمل
سلامٌ لبيروت.