نهارات قصيرة .. ليال طويلة – تشارلز سيميك – ترجمة أحمد شافعي

أشخاص:
بلدان:

تلفزيونٌ قديمٌ في بيتٍ خاوٍ، يقولُ لنفسه: “يبدو أنه مكتوبٌ عليّ، أو مقسومٌ لي، أو أنني ملعونٌ بأن أعيش وسطَ أشياء لن أسمعها يومًا تنتهي”.

***
ليلةٌ باردةٌ من ديسمبر. متشردةٌ منكمشةٌ على نفسها في مدخلِ بنايةٍ في الشارع الشرقي الثالث من نيويورك، تكلم الربَّ، وهو كالعادةِ ملجومَ اللسان.
***
ثورٌ له رأسُ مفكرٍ عميق التفكير، يقف وحيدا في حقلٍ تكسوه طبقةٌ خفيفةٌ من الجليد، غير راضٍ مطلقًا عما يراه.
***
يحكي لي أخي: “رأيت ستة أو سبعة، آسيويين، يسيرون في الشارع باتجاهي، لاحظت أن أحدهم يحمل كيس بقالة يضمه إلى صدره وفيه كلب عجوز. وأنا أنظر إليهم، أدركت أنهم ذاهبون إلى جمعية الرفق بالحيوان، وكانت على بعد بنايات قلائل، ليسلموه لهم. كان وداعا مؤثرا ورائعا للكلب الحبيب، العائلة كلها، بالجدود، بالجميع”.
***
يظلُّ أحَبُّ أدواتِ الكتابة إليَّ هو عُقبُ قلمِ الرصاص، وأَحَبُّ سطوح الكتابة هو ظهرُ فاتورة الكهرباء. أُحبُّ أن أجلسَ إلى مائدة المطبخ التي تقطّع عليها زوجتي البصل وتذرف الدموع، فكلما ارتبكت أو عجزت عن التفكير في ما يلي، ينفتح باب الثلاجة ويأتي طبق الباستا الباردة أو قطعة اللحم المشوي الضخمة لتكون عونًا لي على القصيدة.
***
شاشة المراقبة
كلب على ساقين
يتضرع على باب السوبر ماركت.
***
هل كان قدماء المصريين يصفّرون إذ يمرون بالهرم ليلا؟ هل كان ناثانيل هاوثورن يصفّر وهو يجرجر ساقيه في شوارع “سالم” المعتمة؟ أنا شخصيا أفعل هذا دائما إذ أمر بإحدى المقابر العائلية الصغيرة العديدة في طريقي. لا أعرف اسم النغمة القصيرة المرحة التي أصفرها، ولكنها إلى الآن تقوم بالواجب على أتم نحو: تبعد عني الأشباح.
***
“أكثر ما أحبه في الطبيعة لامبالاتها بالإنسان والمعاناة الإنسانية. ففيما نحن هنا بمآسينا الصغيرة أو الهائلة، تهب الرياح، ويخشخش الورق في الشجر، ويتفتح الزهر، ويموت ـ ثمة ارتياح كثير في اللامبالاة”. الشاعرة فالزينا مورت في حوار لـ نيو ليترز. وأنا موافق.
***
كانوا ليتجسسوا على البراغيث في جسم كلب مهجن لو استطاعوا ـ أو لعلهم يفعلونها أصلا.
***
الظاهر أن الغربان تبدأ يومها بمشاجرات زوجية ومع تقدم الوقت يقل ويقل ما يمكن أن يقال.
***
يحلو للمحاورين وطلبة الأدب أن يسألوا الشعراء أن يكشفوا لهم عن أسرار صنعتهم، وكأنهم طهاة مشاهير يتوقون إلى إشراك الآخرين في وصفاتهم من خلال برامج الطبخ التليفزيونية، ويمكن أن يقولوا شيئا من قبيل: اشتر ولكن من مكتبة مضمونة قاموس أوكسفورد فيه ستمائة ألف كلمة وثلاثة ملايين مقتطفا، واطلب من الجزار أن يقطع لك منه ما بين 4 إلى 5 أرطال للشوي وضعها على الشواية، ويصيبهم الإحباط ويبدو على وجوههم الضيق حينما يقول لهم الشاعر إنه لا يعرف على الإطلاق كيف كتبت قصيدته أو لماذا.
***
أقول لكم الحق، أنا دائما أكتب شيئا ما في السر. ضبطتني زوجتي مرة وأنا أعض طرف قلمي الرصاص فقالت لي “ليتك لا تكتب المزيد من اللغو الممل الذي تسميه شعرا”. فقلت “لا يا حبيبتي. أنا فقط أحاول أن أضبط ميزانيتنا لأتفرغ بعد ذلك لأكتب لك رسالة غرامية”.
***
ندمي الصيفي: عاريان حديثا الزواج يجوبان الغابة على ظهر نمر في لوحة لمقلد بائس لـ دونييه روسو كان يمكن أن أشتريها بخمسين دولار من مزاد في بئر السلم، لكنني كنت مغفلا ولم أفعل.
***
“ليس لدي ما أخفيه” عبارة لم يسأم من ترديدها طوال القرن الماضي المواطنون في الدول البوليسية، واليوم نسمع الأمريكيين يقولونها. كيف يمكن أن تكون حرا وبلا أسرار معا، هذا ما لا يبدو أنه يدخل في عقولهم.
***
جدته، التي تعيش وحدها، تجوب البيت بالساعات كل ليلة، تحاضر المرايا.
***
القصيدة منبه، منبه غريب يريد له صانعه أن يتوقف بعد عدد معين من التكتكات.
***
“كأنما مكتبة الرجل حريمه. ألاحظ أن لديهم عزوفا شديدا عن عرض كتبهم على غريب” كذلك كتب إمرسون في يومياته سنة 1848. مع الكتاب الإلكتروني والإنترنت، حتى القراءة لم تعد سرية. نهوضي من السرير في الليلة الماضية لأحضر شعر أوفيد الإيروتكي جعلني أشعر أنني أقوم بعمل طائش هدام سوف يؤخذ يوما ما عليّ.
***
حينما كنا شعراء شبابا، كنت أنا وجيم تيت مفتونين بـ جيمي رودجرز وأغنياته الجهورية. كنا نسكر، ونشغِّل تسجيلاته لساعات، ونبقى نغني معه مراوحين بين الطبقات الصوتية الطبيعية والجهورية، رامين إلى أن نتعلم مثله الغناء بهذه الطريقة، بحيث إذا جاءت الأمسية الشعرية التالية أذهلنا الجمهور المتكلف بغناء كغناء رعاة البقر إثر كل مقطع من قصيدة، فإما أن نثير الضحك والسخرية، أو نصبح لدى الطليعيين في مصاف العباقرة. ولكننا لم نفلح فط في التعلم.
***
عزيزتي الأبدية،
هل تلملمين الساحرات العجائز الموتى ثم تبرقشين بحُلِيِّهم ذات البريق الذاوي سماء الليل؟
***
أظل أفكر في تلك المرأة الجميلة التي مررت بها في الشارع الليلة الماضية والتي من المؤكد أنني لن أراها من جديد. ويقولون عني “الذي ضاعت منه رأسه فقضى آخر أيامه يبحث عنها”.
***
عرافة غجرية جالسة إلى منضدة صغيرة مدورة في صالة شقتها في جنح ليلة ما محملقة باهتمام في الآيفون إلى أن يأتي زبونها التالي.
***
حزينة كانت، قصة حبه، حتى أن كل من كان يسمعها كان ينفجر في الضحك.
***
لكل شاعر أو شاعرة طريقة في البكاء على الزمن المنسرب. قد يكون في هذا سر انجذاب الكثيرين للشعر.
***
“أوثر الإنصات لشجرة على الإنصات لفيلسوف” كذلك كان يقول صديقي القديم توني برنشيارو، ولكن الشجر الآن خلا من الورق فلم يعد لديه ما يقوله وقد بدأ الجليد يهطل.
***
“كلنا نتحسس طريقنا في العتمة” هكذا أهمس في جنح الليل، لا لشيء غير أن أسمع صوتي.

نصوص: تشارلز سيميك. ترجمة: أحمد شافعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى