ذاكرة الحب –  ريهام عزيز الدين

(1)

صندوقٌ خشبي مُغطى بقماش أخضر،

بينما يتمدد في زواياه الأربع، 

تنفلتُ قبضة يده للتشبث بي، 

تستجديني ألا أفلت عروق يده.

أَوصَى أن أمشي جنباً إلى جنب بجوار صندوقه الخشبي،

يغمرني اللون الأبيض، 

غير أني لا أتوحد بأي طقوسٍ جماعية للحزن.

أتذرع بقصر ذراعيّ، 

  أذرع  العائلة تمتد لتحمل عني جسده أو ما تبقى منه.

للطريق لمقبرة العائلة، 

عليك أن تقطع عشرين ألف هيكتارًا من أرض رملية من أرض لم تنبت سوى الوحشة والغياب.

عائلة أبي يطلقون عليها “جبّانة”، 

ظننتُ أنهم يخبئون بداخلها نوعاً مميزًا من “الجُبن”.

سيتحول أبي إذن إلى قطعة “جُبن”!

جدي  ذو العينين الزرقاوين كبحر لم يره قط، 

وعمي الذي جاب البلاد طولها وعرضها دون ابتسامة واحدة، 

وجدتي ذات السن الذهبي حين تبتسم وثعبانٌ يأكل ذيله عضها ذات عُمرٍ في قدمها اليسرى.

لم يخبرني أحد ما الذي ينتظرنا هناك، 

نتحرك كجنودٍ عائدين للتوّ بخسارة لا تحتمل.

أود أن أقطع المسافة إلى المقبرة ركضًا، أخبره بما لم أخبره به من قبل.

سبعة عشر عاماً من الحكايا المؤجلة

الأذرع الممتدة تقبضُ على الحُنجرة،

تجبرنا على ترديد كلماتٍ أعجز عن مضغها، 

يخبرونني أنها أنشودة جماعية للتخلي، 

لحنًا يحمل صوتًا أعلمه، يأتيني من بلد بعيد أُحب.

يتناوبون اللحن بينهم كبكرة خيط تتلمس طريقها حتى نهاية الخيط.

يستمر اللحن، كي يعبر وحده دونما التفات نحو أرضٍ الجديدة.

أتساءل كيف يعبر دون أن يحمل معه حكايا تحمل بعضاً مني، 

منه، 

وما كبُر بيننا في الغياب!

الطريق نحو المقبرة لم يستغرق سوى دقيقتين أو لربما سبعة عشر عاماً!

تنسحب مني الذاكرة كقلم جاف فرغت أنبوبته للتو تجبره مرات متتالية أن يكتب شيئاً،  ينظر إليّ يائسًا

امرأة تشبهني- كراحة يدي- تتكور أيضًا مع ساقيه الطويلتين 

في الصندوق الخشبي المغطى برائحة المانجو الذي لم يتذوقه.

شريط أبيض بلا صوت، 

بلا حركة، 

بلا ذاكرة.


(2)

استيقظ في الثامنة أقفُ قبالة  باب دوّار يأخذني إليه برفق، 

يتلاشى  صوت أمي  كأنه لم يكن.

حين يعود في الظهيرة، 

يتخلى عن قميصه المُبلل بعرق المحاولة،

يُريني عضلة تبرز على استحياء أعلى ساعده،

كنتُ أتشبث بها، 

وبه،

أصنع منها أرجوحة كي أرفس العالم كعادتي ضاحكة !

بعد سبعة عشر عاماً أو أكثر، 

كانت عضلة ساعده البارزة هي انتصاره الأخير، 

محاولته المتهكمة لمعاودة الرغبة في الحياة،

قبل أن يكور ساقيه الطويلتين في صندوق خشبي، 

مغطى بالقماش الأخضر، 

يتجه وحيداً نحو حافته.


(3)

أتوسل إلى الأحجار العالقة بروحي كلّ صباح، 

أن تعود إلى موطنها في حديقة منزلي حيث تنتمي.

أمضغ مئة كتاب عن كيفية الزراعة وتجاوز الفقد،

أود أن أزرعك  في مواسمٍ لا نهاية لها.

أستيقظ صبيحة كل يوم، 

أدعو أن تُنبت في شرفتي يومًا ما.

يخبرني المتمرسون في مواسم الرحيل 

أنّي لن أستطيع معك صبرا،

كي أعيد انباتك يتوجب علىّ أن أدفنك بطريقة ما، 

أبحث عن أرض تُحبك

تمنحك ذراعيها بلا قيدٍ، 

بلا غيابٍ مُحتمل،

 بلا وعدٍ ينكسر.

في رأسي، 

أُعيد إليك الحياة في اليوم ألف مرة

لم تمتلك يوماً هاتفاً خُلوياً، 

غير أني أهاتفك بلا انقطاع:

أنشأتُ مشروعاً باللون الأخضر،

أمضي في مسارات الكشف مُغمضة العينين،

أحتفظ ببقايا صوتك في ملف إلكتروني أخشى أن أفقده إن انقطع التيار الكهربائي!

غادرتُ خوفي القديم من الغرق، 

لا زلت أتذوق المحبة على مهل.

ينقطع الخط.

عاجزة أن أفلت يدك كي يغادر أحدنا الآخر،

محاولات انباتك في شرفة المنزل باءت بالفشل!

احتفظ بك أسفل وسادتي كسنٍ لن تبصره الشمس الشموسة،

لن ينبُت 

سيبقى فراغ أعلى اللثة

ليذكرني بما فقدت

وأني أمارس فعل الحياة بقسوة كيلا يبتلعني الغياب.

الندبة الموشومة بأعلى الكتف تمسك بي بكلتا ذراعيها

تنهرني  كيلا أتوقف عن المحاولة.


(4)

أحدق بثقبٍ  يتسع داخلي،

يعج بكتيبة نملٍ تمشي بحوافٍ مدببة فوق جلدٍ يحترق،

ثمة صقيع يُجمّد أطرافي الأربعة كصليبٍ دُق للتوّ على الناصية.

تتخدر حواسي بالكلية

بلا أدنى مقاومة،

أهمس:

من غير العدل أن يحدث كل ذلك،

غير أن كل ذلك قد حدث بالفعل.

أحدنا مات مرتين، 

كيف السبيل للملمة الخسارة!

أغفر لك!


(5)

البيت مُعتم، 

لا رائحة طعام يُطهى أو مائدة تُعد، 

لا صوت طمأنينةٍ يُخفف وطأة جُدرانٍ إسمنتية بُنيت على عجل. 

ألقم مفاتيح البيت فم الباب الجائع، 

أسير على أطراف أصابعي خشية أن أوقظ من سكنوا البيت في غيابي الممتد. 

أسترخي على أريكة وضعتها أسفل شباكٍ يطل على ذاكرة الطفولة،  

لا ستائر تحجب الرؤية. 

البنايات الإسمنتية وحدها تراني. 

أتحسس ضفيرتي البُنية التي أحببتها دومًا ممتدة نحو سرتي، 

تستحيل إلى حبلٍ سًري يُعيدني في كل مرة إليك.


(6)

جدتي ذات السن الذهبي حين تبتسم، 

تهب لي ثعبانها الذي يأكل ذيله، وتبتسم!

خط يدك بالأزرق والأخضر” كل من عليها فان”،  

فوق المقبرة 

دليلًا أبديًا للتيه والحنين،  

يقترب ببطء.

أغمض عينيّ.

العتمة تُغلف الزوايا الأربع لصندوقٍ خشبي، 

مُغطى بقماش أخضر.

يأتيني صوتٌ أعرفه: 

“حديقتك أنبتت شجرتى ليمون غرائبيتين بحجم البرتقال!”

ابتسم، 

أوشك أن أخبر الصوت  أن تلكما ساقيك  الطويلتين 

هاهما أنبتتا في البلد البعيد الذي أحببت، 

لا أفعل.

احتفظ بسرٍ صغير ينمو بيننا، 

ابتسم

تدق على النافذ حمامة رمادية، 

تترك ريشة بيضاء توقيع محبة ممكنة.

أفتح عينيّ ببطء.

تفوح رائحة حليب طازج،

أتحسس ثدييّ

ينسل منهما سائل باللون الأخضر

ثمة عينان تنظران لي بفرح

يشب برأسه خارج الصندوق الخشبي،  

أزاح القماش الأخضر بأسنان نبتت بخجل

يشاكس الحمامة التي حطت على النافذة

يكركر ضاحكًا بغنج.

أُسميه “أنت”،

نتعاهد أن نبني معًا ذاكرة جديدة، 

ذاكرة للحب. 

أليس الحب أن يصبح أحدنا ذاكرة الآخر؟


(7)

إليه.


(8)

الغريب:

11 أغسطس 1944- 16 سبتمبر 2017


(9)

.


*نص:  ريهام عزيز الدين

زر الذهاب إلى الأعلى