مناجاة قلقة
يُشارِكُني في مناجاتِكَ طائرٌ قَلِقٌ
كأنَّهُ جابَ العالمَ كُلَّهُ وانزوى أخيرًا في صدري.
تشاركني حروبٌ يسقط كلُّ قتلاها مُضرَّجين باسمِكَ على سجادتي
وأعداءٌ لا يقتربون، لكنَّهم يَحومون في هدأة الليل حولي مثل الخفافيش
وأصدقاءٌ ينهشون لحمي ويرفعونه إليكَ عالياً فلا تتقبَّله
فينهشون المزيد.
كلّما قُلتُ وصلتُ
يَقطَعُ طريقي إليكَ عاشقاتٌ ومومساتٌ ودراويش
كُلَّما صعدتُ سُلَّمًا تَشبَّثَ بي رهبانٌ وعبدةٌ وكلاب سبقت نباحها إليَّ.
يا الذي في كلِّ مكانٍ
ها أنا أُصَفِّفُ نداءاتي إليكَ في عيون الذئاب التي تقترب كأنَّها مسكونةً بالنّار
وأتسلَّقُ الأهوال لأنَّ الذي يمشي إليكَ لا يُفكِّرُ بالخطوة السابقة
يا الذي … ها أنا أناجيكَ
جاثيًا
بينما رماحٍ عطشى
تَشرَبُ من دمي.
حارس الأسى
كأنّي عثرتُ صدفةً على هذه المدينةِ
فصرتُ موكولًا بخرابها.
كأنَّهم رأوني أستلُّ من روحي المناديلَ لأمسَحَ سُخامها
وأغزُلَ من عمرٍ مهدورٍ مئزرًا لأساها المفضوح
ثم قالوا دعوه،
عسى أن يُوكَل بكلٍّ خراب الوجود.
كأنّي أرعى كلَّ المغضوب عليهم
فالخِنجَرُ الذي قُتل بهِ الأبُ الأوَّلُ في خَصري
والحوتُ الذي ابتلع أخًا لي عالقاً في حوض البيت
والذئبُ الذي مزَّق قميصًا خاطته أمٌ ضريرةٌ،
هناك، تُلاعبه الريح على الحبل في الخارج
والحجارةُ التي شجَّت رأس الإمام أخَبِّئها خلف ظهري.
لكنَّني في الحقيقة لستُ سوى حارسٍ فارغ اليدين
أحرس أسايَ، وأسى المدينة
واللصوصُ هناك، يمرحون
في فراديس بعيدة.
الراعي في ضياعهِ
أشهدُ أنَّ طَيفَكِ مسّ وتر الربابةَ
فانتشى الراعي في ضياعهِ
ونسي القريةَ،
واهتدى قطيعهُ فجأةً إلى فردوس مفقود.
أشهدُ أنَّ صوتكِ منقوعٌ بخمرٍ ينساب من عينٍ في الجنَّةِ
لهذا تسكر الأشجار والنَّهر والطيور المهاجرة
وفي دفاترها تنبت الحسنات مثل العشب
وتلاحقها الفضيلةُ مثل الأقدار.
أشهدُ أنَّ لكِ على كلِّ جبلٍ دعاءً يرفعه عاشقٌ في قُنوته
أو تحمله غمامة في رحيلها
وأشهد أن لكِ من كلِّ سفحٍ تهفوا إليه أرواح القديسينَ
نصيب.
أينما ينبُت العُشب
كنتُ أعوِّذُ القريةَ بالنَّهرِ كُلَّما شحبَ وجهُها
وصارت تجاعيدُها وشيكةً
وأُبخِّرُ البيادرَ بالصّلَواتِ التي تخنقُ سكرَتها
فتتثاءبُ طويلًا
فيما تُفَرقِعُ في المِشعَلِ وجوهٌ شرّيرةٌ تَطلُعُ من النارِ ثم تصير رمادًا.
كنتُ الحارسَ الذي شهدَ انطفاءَ الفانوسِ في غرفةِ الفتاة التي كَتَبَت بالحنّاءِ على كفّيها أغنيةً،
ولفَّتهُما بالخِرقةِ البيضاء ونامت،
الحارسَ الذي رأى الملائكةَ تَسنُدُ جرّة الماء متروكةً على السطح تبردُ ببطءٍ
فيما أرادت أن تَنزَلِقَ على رأسِ الطفلِ المتوهّج بالحمّى
كنت الحارسَ الذي يأمَنُ لظلِّه الصاعدِ على الشجرةِ وبندقيَّتِهِ الطويلةِ يتامى ووحيداتٌ،
وفقراءُ يمرحُ في أمعائهم خواءٌ
ويهطلُ على أكتفِاهم غبارُ جوعٍ من سقفِ أحلامٍ منهوبة.
كانت بندُقيَّتي غُصنَ زيتون
وبيتي أينما ينبُت العُشب
لهذا
أحرس القريةَ
وبلا حارسٍ أعيش
كأنَّني مبعوثٌ لكلِّ هذا الليل
فيما الفجر عالقٌ في بئرٍ مهجورةٍ على التلّ.
*نص: علي صلاح بلداوي