مرثية غياب – أحمد العشري

يامن تشبهين الريح، أبحثُ عنكِ بين الشرفات المهجورة

أشخاص:
بلدان:

مرثية الغياب

” ل “

نَجْمُكِ الغِيابُ،

وقَمَرُكِ الرَّحِيلُ والدَّمُ.

والآن أَبحثُ عَنكِ

في سَمَاءٍ لا يُشرِقُ فيها القَمَرُ،

وفي أَرْضٍ تَكسُوها فَوْضَى الغِيابِ.

تَتوهُ الأَقدامُ بَينَ الرِّمالِ،

والرِّيحُ تَسُوقُني إلى حَيْثُ لا وِجْهَةَ.

كُلَّما اقتَرَبْتُ من نافِذَةِ الحُلْمِ،

رَأَيْتُ ظِلَّكِ يَمضِي بَعيدًا،

كَأَنَّكِ سَحابٌ يَنمُو مع الشُّهَدَاءِ.

هَل تَذْكُرينَ ذَلكَ المُسافِرَ العَطِشَ

الَّذِي يَسعَى إلى واحَتِهِ المَفقُودَةِ؟

والقَمَرُ غَائِبٌ عن سَمَائِهِ،

لَكِنَّ نَجْمًا جَدِيدًا

بَدَأَ يَتَشَكَّلُ في البَعِيدِ،

كَنبُوءَةٍ لم تَكْتَمِلْ.

يَكتُبُكِ على حَافَةِ الجِدَارِ المُهَدَّمِ،

يُلقِي بحُرُوفِهِ في نَهْرٍ مُهَاجِرٍ،

عَلَّهُ يَعُودُ إلَيكِ بالحَنِينِ،

أو يَمضِي بكِ إلى بَيْتٍ غَارِقٍ

في حَكَايَاتِ المَطَرِ.

فالمَدَى الَّذِي تَاهَتْ فِيهِ الأَغَانِي،

والقَصِيدَةُ الَّتي تَتْلُو وَجَعَهَا

على جُدْرَانِ لَيْلِهَا الطَّوِيلِ

كاناَ بلا نُجُومٍ،

كانَا أُغْنِيَتَنَا

” ي “

يَا مَن تَشْبَهِين الرِّيحَ،

أَبحثُ عنكِ بَيْنَ الشَّرَفَاتِ المَهْجُورَةِ،

وفي أَصْواتِ الشَّوارعِ الخالِيَة 

حتى في الازدحامِ

كُلَّما أَغمَضْتُ عَيْنَيَّ،

اراكِ ظلال تَتسَرَّبُ بَيْنَ نُورٍ خَافِتٍ،

كُلَّما حاوَلْتُ الإمساكَ بِهَا،

تَحوَّلَتْ إلى رَمَادٍ يَتَناثَرُ في الهَوَاءِ.

المَدِينَةُ بلا أَهْلٍ،

والشَّوارِعُ تَئنُّ تَحْتَ وَطْأَةِ الحنينِ،

وكَأَنَّها تَسألُ عنكِ.

أنتِ الغائِبَةُ الَّتي تَتَحَدَّثُ عَنِّي 

بِصَمْتِ المَسافاتِ،

لاظل العَابِرُ الَّذي يَقِفُ 

على حَافَةِ الانتِظارِ،

يَنْتَظِرُ نَجمًا جَدِيدًا لِيُضيءَ 

ما تَبَقَّى من اضواءنا .

أنتِ يَا لَيْلَى،

اول نشوة السُكر 

والبلوغ

لَكِنَّ نَجمَكِ ..

 يُنيرُ خَطَوَاتِي الهَارِبَةَ من العَدَمِ.

يرشدني لنجمٍ جديد

” ل “

لِمَنْ أَتركُ هَذا العطر العَالقَ في دَمِي؟

المَدِينَةُ تَلْبَسُ ثَوْبَ العَتْمَةِ،

وأنتِ غائِبَةٌ خَلْفَ سِتارٍ من الغُمُوضِ.

أَقتَفي أَثَرَكِ في رَائِحَةِ الزَّهَرِ،

الذي مات في اول لياليه 

على سريرك 

وسط أشباحك 

وصوت المَطَرِ 

 تغتالون زُجاجَ النَّوافِذِ.

وتغنون مع الخريف الكاذب ؛

” القَمَرُ غائِبٌ،

و اللَّيْلَ لا يَخلَعُ عَبَاءَتَهُ ،

وها هو  الغَرِيقٌ 

في بَحرٍ من الذَّاكِرَةِ،

كُلَّما حاوَلْ السِّباحَةَ نحونا،

انْجَرَفْ إلى عُمقِ الغِيابِ ! “

نَجمٌ جَدِيدٌ يَلُوحُ في سَماءِ هذا اللَّيْلِ،

كَنَبْضٍ خافِتٍ لا يَكادُ يَظهَرُ،

كَأَمَلٍ يَخْتَبِئُ خَلْفَ عينيكِ

ويغني بأعلى صوت ؛

أَيَّتُها الغَرِيبَةُ،

هَل تَسمَعِينَ صَرْخَتي عَبْرَ أَمْوَاجِ الرِّيحِ؟

أَم أنَّه ذاك المحتال الوغد 

 سَرَقَ صَوْتي كَما سَرَقَكِ مِنِّي؟

أنا الَّذي لا يَعْرِفُ سِوَى الحقيقة ،

أَنْتَظِرُ نَجمَكِ الجَدِيدَ

 لِيَشرُقَ من بَيْنِ الرُّكَّامِ.

” ى”

يَا لَهَذا اللَّيْلِ الطَوِيلِ 

الَّذي يُسافِرُ في عروقك،

يَا لَهَذا القَلْبِ النابضُ

وتلك الشفاه المعتقة 

 بالشَّوْقِ لجُرحٍ لا يَلتَئِمُ.

لأتذكَّرَ شاعرًا كان يطفئ 

أحلامه 

مع رماد تبغه 

في كوب شاي 

ويصرخ ؛

“إنّي لأعْجَبُ !

كيْفَ ذَاكَ الصَّدْرُ يحملُ نافِرَيْنْ

صُبْحًا من الأنْدَاءِ

والسَّيْفَ الذي قتَلَ الحُسَيْنْ”

هَرَبْتِ بَعِيدًا كَفَراشَةٍ تَخشى الِاحْتِرَاقَ.

أَقِفُ على عَتْبَةِ اللَّيْلِ،

أُراقِبُ كَيْفَ تَتَساقَطُ النُّجُومُ كَدُمُوعٍ صامِتَةٍ،

وَأنتِ تُسافِرينَ بَعِيدًا في طُرُقاتٍ لا أَعْرِفُهَا.

أنتِ يَا لَيْلَى،

مَن تَفْتَحِينَ أَبْوابَ الغِيابِ،

ومَن تَغْلِقِينَها في وَجْهي كُلَّما اقْتَرَبْتُ،

كَأَنَّكِ قَصِيدَةٌ كَتَبَتْها السَّمَاءُ

لِتَظَلَّ مُعَلَّقَةً بَيْنَ الضّوءِ وَالظَّلامِ،

وكلَّما حاوَلْتُ قِرَاءَتَكِ،

اخْتَفَيْتِ مع النُّجُومِ.

———–

أحمد العشري – القاهرة

١٧ -١٨ اكتوبر 2024

6:40 صباحًا

هامش : المقطع الاتي للشاعر الراحل السيد غازي وهو نوع من انواع التناص والتحية له 

  “إنّي لأعْجَبُ !

كيْفَ ذَاكَ الصَّدْرُ يحملُ نافِرَيْنْ

صُبْحًا من الأنْدَاءِ

والسَّيْفَ الذي قتَلَ الحُسَيْنْ”

***

زر الذهاب إلى الأعلى