“تنادينني لتنبهيني من الأخطار” (رسالة فرانز كافكا إلى ميلينا) – ترجمة: هبة حمدان

أشخاص:
بلدان:

الخميس، ميران ( 3 يونيو 1920م)

هل تريني ميلينا؟، ها أنا مستلقٍ على مقعدي في هذا الصباح، عارياً، نصفي في الظل ونصفي الآخر بالشمس، بعد أرقٍ حرمني النوم طوال الليل، كيف لي أن أنام وأنا أشعر وكأنني ريشة في مهب الليل، أفكر فيكِ باستمرار، لقد كنتُ خائفاً، كما كنتِ أنتِ حين راسلتني، «ما الذي سقط في حجري» خائفاً كما الرُّسل حين كانوا أطفالاً، عندما سمعوا منادياً يناديهم، فخافوا، فضربوا الأرض بأقدامهم، وأحسوا بخوف يذهب العقل، لا بد أنهم سمعوا مثل ذلك النداء من قبل، لكن الخوف الذي يصاحب النداء هذه المرة مختلف، فقد كانوا أطفالاً، سمعهم محدود، لكن النداء أعلى من كلِّ مرة، ليؤكد أحاسيسهم بشأن نبوءتهم التي لم يتأكدوا منها مسبقاً، فقد سمعه كثيرون غيرهم، لم يكن بهم الكفاءة للنبوة، فليؤمن الإنسان يجب ألا ينكر سماعه، هذه هي مشاعري حين وصلتني رسالتكِ.

نشتركُ كلانا بصفات غريبة مثل القلق والخوف، فكل رسالة لا تشبه سابقتها، وترتعد عما سيليها، وترتعد أكثر من الرد. من السهل أن أشعر أن هذه ليست طبيعتكِ، ولربما كانت ليست طبيعتي أيضاً، لكنني أتقمصها بين حين وآخر، وكأنها طبيعتي الثانية، التي تنتابني حين أشعرُ باليأس أو الغضب، ولا أحتاج أن أقول حين أشعر بالخوف.

أشعر أحياناً أن كلانا في حجرتين باباهما مُتقابلين، وكأننا نمسك بمقبض الباب، فما يكاد أحدنا يلمح الآخر حتى يهب ليختفي وراء الباب، ولو حاول أحدنا أن ينطق بكلمة تجد الآخر يضرب وراءه الباب مبتعداً لكي لا يراه. متأكداً أنه سيقوم بفتح الباب مرة أخرى، فهي حجرة من الصعب مغادرتها. لم نكن متشابهين إلى هذه الدرجة!، لما كان أحدنا هادئاً، أو أن أحدنا تعمد أن يطيل النظر إلى الآخر، أو أن يرتب غرفته لتعكس حقيقته، لا فإن ما يفعله هو أن يقلد الآخر ويغلق الباب، تبدو الغرفة خالية حتى وهو يقف خلف بابها.

مثل سوء التفاهم المؤلم هذا، أحياناً تشكين يا ميلينا من بعض الرسائل التي لو تفقدتها من كل اتجاه لن تجدي ما يسقط منها. ولكن إن لم أكن مخطئاً تقصدين تلك الرسائل التي شعرت فيها أنني قريب منكِ وكان دمي يألفكِ، كما يألفكِ دمُكِ. إنها الرسائل التي تعمقت فيها بغابتي، وملأتني راحة، حتى أن المرء يستطيع أن يقول أنه يرى الشمس أعلاها فوق الشجر، وهذا ما هو فقط. لا يستطيع المرء في ساعة أن يجد ما يزعجه، «فلا كلمة لم أتطرق لها ولم أركز عليها». مع أن ذلك أخذ فقط مني دقيقة على الأكثر، لتقرع الطبول بعدها مهللة بقدوم الليل.

يجب أن تحاولي عزيزتي ميلينا أن تلاحظي من هو الشخص الذي أخطأ بحقكِ، إن ثمانية وثلاثين عاماً لا تعد بالقليل، وخاصة حين تكون يهودياً، فهو يبدو أطول من الحقيقة. فلو كنتُ صادفتكِ في معترك الحياة ، أنتِ التي لم أتوقع يوماً أن ألقاك، بمثل هذا الوقت المتأخر من عمري، فلا أتوقع يا ميلينا أنني كنت سأصرخ ملوحاً، ولا أن تتحرك بداخلي كل هذه الأمور، ولا أن أتفه نفسي وأقول الحماقات التي أقولها، (ولنتغاضَ عن الحماقات التي لا فائدة منها)، أما عن حقيقة أنني خانع وراكع، فلم ألحظ ذلك إلا عندما رأيت قدميكِ أمامي ويداي تحتضنان ساقيكِ.

لا تطلبي مني الإخلاص ميلينا، فلا أحد يطلب مني الإخلاص أكثر من نفسي، لقد أضعتُ العديد من الأشياء، ولربها كل شيء. أن تشجعيني على ذلك لا يشجعني حقاً، وإنما يشل حركتي، فيصبح كل شيء فجأة كذبة، ويتحول الصيد إلى صياد، فأنا بطريق خطر ميلينا. ها أنتِ تقفين بثبات بجانب الشجرة، شابة جميلة، لمعان عينيها يبدد آلام العالم، وكأننا نلعب لعبة الاختباء، فها أنا أجر نفسي من شجرة إلى أخرى، وأنتِ تنادينني لتنبهيني من الأخطار، وتمدينني بالشجاعة اللازمة، أنا وخطواتي المتعثرة، تذكرينني بمخاطر اللعبة، لكني لم أستطع أن ألعب، لقد سقطتُ، وها أنا على الأرض مع ذلك الصوت الذي يتردد في أعماقي، أستمع لصوتكِ، فأستطيع أن أفهم ما تقول نفسي بداخلي وأخبركِ به، لائتمنكِ على سرّي أنتِ وحدكِ لا غيركِ.

ف


*نص: فرانز كافكا
*ترجمة: هبة حمدان
المصدر: فرانز كافكا – رسائل إلى ميلينا – ترجمة: هبة حمدان – دار الأهلية

زر الذهاب إلى الأعلى