عزيزتي ملك ..إن أخطاء خرونوس إله الزمن تشمل كل شيء ..يجوع من لا يستحقون الجوع و يتلقى الحب من لا يستحقون الحب و يموت من لا يستحقون الموت… .منذ عشر سنوات أو أكثر كنت أقوم بالتدريس في الصيف في كلية بنات عريقة في الولايات المتحدة الأمريكية في الساحل الشرقي و أثناء الإمتحان النهائي ضبطت إحدى الطالبات متلبسة بالغش في قاعة الإمتحان فقمت بالإجراءات المعتادة كأي حيوان بيروقراطي واعد …منحت الطالبة درجة راسب و حولت حالتها إلي إدارة الجامعة التي شكلت لجنة تأديبية و بعد جلسات استماع و مداولات قامت بفصل الطالبة من الجامعة…بعد 3 أسابيع من هذا القرار انتحرت الفتاة…شخص آخر يركل الصندوق كما يقول الأمريكيون ..
اهتمت رئيسة اللجنة التأديبية بأن تتصل بي بعد الإنتحار لتؤكد لي عدم مسؤوليتي عن هذه الفاجعة و أن الخطأ (لو كان هناك ثمة خطأ )هو مسؤولية الإخصائي النفسي في اللجنة الذي لم يحسن تقدير عواقب القرار علي الحالة النفسية لهذه الطالبة التي كانت تعاني من مشاكل ما و أنه سيتم تدارك هذا الخطأ لكي لا يتكرر بعد ذلك.. عم تتكلمين يا سيدتي؟!.. أطربيني أكثر و أكثر بحديث توزيع المسؤوليات البيروقراطية و تستيف أوراق ملف حالة وفاة المرحومة…. كل الإجراءات سليمة بل و مطلقة الصحة أيضا و أخطاء الأداء الميكانيكي سيجري صيانتها و تقويمها لتحسين كفاءتها في المرة القادمة (ماكس فيبر كم أنت رائع بإطلالتك الرائدة علي ملامح الرعب الحديث)..الخسائر محدودة و لا تكاد تذكر فهناك فقط ضحية بشرية واحدة لكن فيما عدا ذلك فكل شيء هادئ علي الجانب الآخر….اللعنة علي كل شيء…علي جبهتي وشم “قاتل” .وصلت إلي قمة الحضارة فهنيئا لي ….لقد حملت دم هذه الفتاة علي رقبتي لأنها كانت ضحية عملية كنت أنا طرفا واعيا مشاركا فيها .حملت دمها عدلا أو ظلما لا فارق عندي .و كأي مثقف رومانتيكي عتيد في رومانتيكيته التافهة يحب أن لا ينجرح و من ثم فهو ينعزل عن عالم الحقيقة كي لا يعرض نفسه للجرح و ذلك لأن الحقيقة مومس مريضة بالزهري ينبغي العمل علي تجنبها فلم أجد أمامي إلا التناسي و الصمت و الإرتضاء بدور صاحب الأخلاق المزعومة الذي ينتهي سقوطه الآجل بالترفيه عن المشاهدين و المتابعين…
و لا أدري لماذا تذكرت ما حدث هذه الأيام و بعد عشر سنوات من التناسي التام. لعله حديث النهايات.. رجل وحيد ينمو في ظلال الكتب أكثر مما ينمو في وهج الحياة…أسوار من الأسئلة و جدارات من الإلتباس…دخيل في عالم لم يعد قائما. رجل أبدا معلق في نقطة وسط بين الواقع و اليأس و بين الذكري و الألم ، و رعبه الأكبر هو كما قال ستيفان زفايج أن يجد نفسه مدفوعا إلي القاع علي غير علم منه… رجل بدأ من عند كمال عبد الجواد و سينتهي عند كمال عبد الجواد..و مثل إبراهيم الكاتب فالخيبة (بالمعنيين العقلي و الرومانسي ) كانت هي الدافع الذي يحركه دائما بل هي الحصاد الوحيد الذي يجنيه. لا هو بالبطل و لا بالبطل المضاد و لا هو بالكوميدي الهزلي و لا هو بالتراجيدي المأساوي و لا هو بالمألوف و لا هو بغير المألوف و لذا فهو متعدد الأقنعة و الوجوه لكن أيا منها لم يتمكن من أن يحل مكان وجهه الحقيقي المجهول و المرفوض و المنبوذ.. هذا هو أنا.
أعلم انك قد تختلفين مع هذا التشخيص لكني أشعر أن الصغيرة دليلة ستتفق معه يوما ما في المستقبل و في كل الأحوال لا شيء يهم… تقول كارين بلكسن : “و لكن من أين أتتك الفكرة القائلة بأن الحقيقة هي الشيء الذي يطالبنا الله به؟ إنها فكرة غريبة لأن الله يعرف الحقيقة مسبقا بل و يعرفها جدا إلي درجة أنها تجعله يتثاءب سأما إزاءها دون شك. الحقيقة أمر يخص الخياطين و صانعي الأحزمة. أما الله فأعتقد أنه يفضل الأقنعة”…..